فصل: تفسير الآيات رقم (38- 39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ‏(‏17‏)‏ فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏18‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

استئناف بياني بعد أن ذكر حال المكذبين وما يقال لهم، فمن شأن السامع أن يتساءل عن حال أضدادهم وهم الفريق الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به القرآن وخاصة إذ كان السامعون المؤمنين وعادة القرآن تعقيب الإِنذار بالتبشير وعكسه، والجملة معترضة بين ما قبلها وجملة ‏{‏أم يقولون شاعر‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏(‏إن‏)‏ للاهتمام به وتنكير ‏{‏جنات ونعيم‏}‏ لتعظيم، أي في أيَّة جنات وأيّ نعيم‏.‏

وجمع ‏{‏جنات‏}‏ تقدم في سورة الذاريات‏.‏

والفاكه‏:‏ وصف من فكِه كفرح، إذا طابت نفسه وسرّ‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فاكهين‏}‏ بصيغة اسم الفاعل، وقرأه أبو جعفر ‏{‏فكهين‏}‏ بدون ألف‏.‏

والباء في ‏{‏بما آتاهم ربهم‏}‏ للسببية، والمعنى‏:‏ أن ربهم أرضاهم بما يحبون‏.‏

واستحضار الجلالة بوصف ‏{‏ربهم‏}‏ للإِشارة إلى عظيم ما آتاهم إذ العطاء يناسب حال المعطي، وفي إضافة ‏(‏رب‏)‏ إلى ضميرهم تقريب لهم وتعظيم وجملة ‏{‏ووقاهم ربهم عذاب الجحيم‏}‏ في موضع الحال، والواو حالية، أو عاطفة على ‏{‏فاكهين‏}‏ الذي هو حال، والتقدير‏:‏ وقد وقاهم ربهم عذاب الجحيم، وهو حال من المتقين‏.‏ والمقصود من ذكر هذه الحالة‏:‏ إظهار التباين بين حال المتقين وحال المكذبين زيادة في الامتنان فإن النعمة تزداد حسن وقع في النفس عند ملاحظة ضدها‏.‏

وفيه أيضاً أن وقايتهم عذاب الجحيم عدل، لأنهم لم يقترفوا ما يوجب العقاب‏.‏ وأما ما أعطوه من النعيم فذلك فضل من الله وإكرام منه لهم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏ ما تقدم قُبَيْله‏.‏

وجملة ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ إلى آخرها مقول قول محذوف في موضع الحال أيضاً، تقديره‏:‏ يقال لهم، أو مقولاً لهم‏.‏ وهذا القول مقابل ما يقال للمكذبين ‏{‏اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ لإِفادة النعيم، أي كلوا كل ما يؤكل واشربوا كلّ ما يشرب، وهو عموم عرفي، أي مما تشتهون‏.‏

و ‏{‏هنيئاً‏}‏ اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول وقع وصفاً لمصدرين لفعلي ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏، أكلاً وشرباً، فلذلك لم يؤنث الوصف لأن فعيلاً إذا كان بمعنى مفعول يلزم الإِفراد والتذكير‏.‏ وتقدم في سورة النساء لأنه سالم مما يكدر الطعام والشراب‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ موصولة، والباء سببية، أي بسبب العمل الذي كنتم تعملونه وهو العمل الصالح الذي يومئ إليه قوله‏:‏ ‏{‏المتقين‏}‏ وفي هذا القول زيادة كرامة لهم بإظهار أن ما أوتوه من الكرامة عوض عن أعمالهم كما آذنت به باء السببية وهو نحو قول من يسدي نعمة إلى المنعم عليه‏:‏ لا فضل لي عليك وإنما هو مالك، أو نحو ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

حال من ضمير ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 19‏]‏، أي يقال لهم كلوا واشربوا حال كونهم متكئين، أي وهم في حال إكلة أهل الترف المعهود في الدنيا، فقد كان أهل الرفاهية يأكلون متكئين وقد وصف القرآن ذلك في سورة يوسف ‏(‏31‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئاً وءاتت كل واحدة منهن سكيناً‏}‏ أي لَحز الطعام والثمار‏.‏ وفي الحديث «أمَّا أنا فلا آكل متكئاً» وكان الأكاسرة ومرازبة الفُرس يأكلون متكئين وكذلك كان أَباطرة الرومان وكذلك شأنهم في شُرب الخمر، قال الأعشى‏:‏

نَازَعْتهُم قُضب الريحان متكئاً *** وخمرةً مُزة رَاوُوقها خضل

والسَّرر‏:‏ جمع سرير، وهو ما يُضطجع عليه‏.‏

والمصفوفة‏:‏ المتقابلة، والمعنى‏:‏ أنهم يأكلون متكئين مجتمعين للتأنس كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على سرر متقابلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وزوجناهم‏}‏ عطف على ‏{‏متكئين‏}‏ فهي في موضع الحال‏.‏

ومعنى ‏{‏زوجناهم‏}‏‏:‏ جعلنا كل فرد منهم زوجاً، أي غير مفرد، أي قرنَّاهم بنساء حُور عيننٍ‏.‏ والباء للمصاحبة، أي جعلنا حُوراً عِيناً معهم، ولم يُعد فعل ‏{‏زوجناهم‏}‏ إلى ‏{‏حور‏}‏ بنفسه على المفعولية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زوجناكها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، لأن ‏(‏زوجنا‏)‏ في هذه الآية ليس بمعنى‏:‏ أنكحناهم، إذ ليس المراد عقد النكاح لنُبوّ المراد عن هذا المعنى، فالتزويج هنا وارد بمعناه الحقيقي في اللغة وهو جعل الشيء المفرد زوجاً وَليس وارداً بمعناه المنقول عنه في العرف والشرع، وليس الباء لتعدية فعل ‏{‏زوجناهم‏}‏ بتضمينه معنى‏:‏ قرنَّا، ولا هو على لغة أزد شنوة فإنه لم يسمع في فصيح الكلام‏:‏ تزوج بامرأة‏.‏

وحور‏:‏ صفة لنساء المؤمنين في الجنة، وهنّ النساء اللاتي كنّ أزواجاً لهم في الدنيا إن كنّ مؤمنات ومن يخلقهن الله في الجنة لنعمة الجنة وحكم نساء المؤمنين اللاتي هن مؤمنات ولم يكن في العمل الصالح مثل أزواجهن في لحاقهن بأزواجهن في الدرجات في الجنة تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون‏}‏ في سورة الزخرف ‏(‏70‏)‏ وما يقال فيهن يقال في الرجال من أزواج النساء الصالحات‏.‏

وعين‏}‏ صفة ثانية، وحقها أن تعطف ولكن كثر ترك العطف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءَامَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ‏}‏‏.‏

اعتراض بين ذِكر كرامات المؤمنين، والواو اعتراضية‏.‏

والتعبير بالموصول إظهار في مقام الإِضمار لتكون الصلة إيماء إلى أن وجه بناء الخبر الوارد بعدها، أي أن سبب إلحاق ذرياتهم بهم في نعيم الجنة هو إيمانهم وكونُ الذريات آمنوا بسبب إيمان آبائهم لأن الآباء المؤمنين يلقِّنون أبناءهم الإِيمان‏.‏

والمعنى‏:‏ والمؤمنون الذين لهم ذرياتٌ مؤمنون ألحقنا بهم ذرياتهم‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏، وهل يستطيع أحد أن يقي النار غيره إلا بالإِرشاد‏.‏ ولعل ما في الآية من إلحاق ذرياتهم من شفاعة المؤمن الصالح لأهله وذريته‏.‏

والتنكير في قوله‏:‏ ‏{‏بإيمان‏}‏ يحتمل أن يكون للتعظيم، أي بإيمان عظيم، وعظمتُه بكثرة الأعمال الصالحة، فيكون ذلك شرطاً في إلحاقهم بآبائهم وتكون النعمة في جعلهم في مكان واحد‏.‏

ويحتمل أن يكون للنوعية، أي بما يصدق عليه حقيقة الإِيمان‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏واتبعتهم‏}‏ بهمزة وصل وبتشديد التاء الأولى وبتاء بعد العين هي تاء تأنيث ضمير الفعل‏.‏ وقرأه أبو عمرو وحده ‏{‏وأتبعناهم‏}‏ بهمزة قطع وسكون التاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذريتهم‏}‏ الأول قرأه الجمهور بصيغة الإِفراد‏.‏ وقرأه أبو عمرو ‏{‏ذرياتهم‏}‏ بصيغة جمع ذرية فهو مفعول ‏{‏أتبعناهم‏}‏‏.‏ وقرأه ابن عامر ويعقوب بصيغة الجمع أيضاً لكن مرفوعاً على أنه فاعل ‏{‏أتبعتهم‏}‏، فيكون الإِنعام على آبائهم بإلحاق ذرياتهم بهم وإن لم يعملوا مثل عملهم‏.‏

وقد روى جماعة منهم الطبري والبزار وابن عديّ وأبو نعيم وابن مردويه حديثاً مسنداً إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه ‏(‏أي في العمل كما صرح به في رواية القرطبي‏)‏ لتقرّ بهم عينُه ثم قرأ‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ ‏"‏‏.‏ وعلى الاحتمالين هو نعمة جمع الله بها للمؤمنين أنواع المسرّة بسعادتهم بمزاوجة الحور وبمؤانسة الإِخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم، وذلك أن في طبع الإنسان التأنس بأولاده وحبه اتصالهم به‏.‏

وقد وصف ذلك محمد بن عبد الرفيع الجعفري المُرسي الأندلسي نزيل تونس سنة 1013 ثلاث عشرة وألف في كتاب له سمّاه «الأنوار النبوية في آباء خير البرية» قال في خاتمة الكتاب «قد أطلعني الله تعالى على دين الإِسلام بواسطة والدي وأنا ابن ستة أعوام مع أني كنت إذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم ثم أرجعُ إلى بيتي فيعلمني والدِي دينَ الإِسلام فكنت أتعلم فيهما ‏(‏كذا‏)‏ معاً وسني حين حُملت إلى مكتَبهم أربعة أعوام فأخذ والدي لوحاً من عود الجوز كأني انظر الآن إليه مملّساً من غير طَفَل ‏(‏اسم لطين يابس وهو طين لزج وليست بعربية وعربيتُه طُفَال كغراب‏)‏، فكتب لي فيه حروف الهجاء وهو يسألني عن حروف النصارى حرفاً حرفاً تدريباً وتقريباً فإذا سميتُ له حرفاً أعجمياً يكتب لي حرفاً عربياً حتى استوفى جميع حروف الهجاء وأوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعَمِّي وأخي مع أنه رحمه الله قد ألقى نفسه للهلاك لإِمكان أن أخبر بذلك عنه فيُحْرَق لا محالة وقد كان يُلقِّنني ما أقوله عند رؤيتي الأصنام، فلما تحقق والدي أني أكتم أمور دين الإِسلام أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وبعض الأصدقاء من أصحابه وسافرت الأسفار من جِيَّان لأجتمع بالمسلمين الأخيار إلى غرناطة وإشبيلية وطليطلة وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء، فتخلص لي من معرفتهم أني ميزت منهم سبعة رجال كانوا يحدثونني بأحوال غرناطة وما كان بها في الإِسلام وقد مروا كلهم على شيخ من مشائخ غرناطة يقال له الفقيه الأوطوري‏.‏

‏.‏‏.‏» الخ‏.‏

وإيثار فعل ‏{‏ألحقنا‏}‏ دون أن يقال‏:‏ أدخلنا معهم، أو جعلنا معهم لعله لما في معنى الإِلحاق من الصلاحية للفَور والتأخير، فقد يكون ذلك الإِلحاق بعد إجراء عقاب على بعض الذرية استحقوه بسيئاتهم على ما في الأعمال من تفاوت في استحقاق العقاب والله أعلم بمراده من عباده‏.‏ وفعل الإِلحاق يقتضي أن الذريات صاروا في درجات آبائهم‏.‏ وفي المخالفة بين الصيغتين تفنن لدفع إعادة اللفظ‏.‏

و ‏{‏ألتناهم‏}‏ نقصناهم، يقال‏:‏ آلته حقه، إذا نقصه إياه، وهو من باب ضرب ومن باب علم‏.‏

فقرأه الجمهور بفتح لام ‏{‏ألتناهم‏}‏‏.‏ وقرأه ابن كثير بكسر لام ‏{‏ألِتناهم‏}‏، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يلتكم من أعمالكم شيئاً‏}‏ في سورة الحجرات ‏(‏14‏)‏‏.‏ والواو للحال وضمير الغيبة عائد إلى ‏{‏الذين آمنوا‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله ألحق بهم ذرياتهم في الدرجة في الجنة فضلاً منه على الذين آمنوا دون عوض احتراساً من أن يحسبوا أن إلحاق ذرياتهم بهم بعد عطاء نصيب من حسناتهم لذرياتهم ليدخلوا به الجنة على ما هو متعارف عندهم في فك الأسير، وحَمالة الديات، وخلاص الغارمين، وعلى ما هو معروف في الانتصاف من المظلوم للظالم بالأخذ من حسناته وإعطائها للمظلوم، وهو كناية عن عدم انتقاص حظوظهم من الجزاء على الأعمال الصالحة‏.‏

و ‏{‏من عملهم‏}‏ متعلق ب ‏{‏ما ألتناهم‏}‏ و‏(‏من‏)‏ للتبعيض، و‏(‏من‏)‏ التي في قوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ لتوكيد النفي وإفادة الإِحاطة والشمول للنكرة‏.‏

‏{‏كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ‏}‏‏.‏

جملة معترضة بين جملة ‏{‏وما ألتناهم من عملهم‏}‏ وبين جملة ‏{‏وأمددناهم بفاكهة‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 22‏]‏، قصد منها تعليل الجملة التي قبلها وهي بما فيها من العموم صالحة للتذييل مع التعليل، و‏{‏كل امرئ‏}‏ يعمّ أهل الآخرة كلهم‏.‏ وليس المراد كل امرئ من المتقين خاصة‏.‏

والمعنى‏:‏ انتفى إنقاصُنا إياهم شيئاً من عملهم لأن كل أحد مقرون بما كسب ومرتهَن عنده والمتقون لمّا كَسَبوا العمل الصالح كان لازماً لهم مقترناً بهم لا يُسلبون منه شيئاً، والمراد بما كسبوا‏:‏ جزاء ما كسبوا لأنه الذي يقترن بصاحب العمل وأما نفس العمل نفسه فقد انقضى في إبانه‏.‏

وفي هذا التعليل كنايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أن أهل الكفر مقرونون بجزاء أعمالهم، وثانيتهما‏:‏ أن ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بآبائهم في النعيم ألحقوا بالجنة كرامة لآبائهم ولولا تلك الكرامة لكانت معاملتهم على حسب أعمالهم‏.‏ وبهذا كان لهذه الجملة هنا وقع أشد حسناً مما سواه مع أنها صارت من حسن التتميم‏.‏

والكسب‏:‏ يطلق على ما يحصله المرء بعمله لإِرادة نفع نفسه‏.‏

ورهين‏:‏ فعيل بمعنى مفعول من الرهن وهو الحبس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏22‏)‏ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏في جنات ونعيم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 17‏]‏ الخ‏.‏

والإِمداد‏:‏ إعطاء المَدَد وهو الزيادة من نوع نافع فيما زيد فيه، أي زدناهم على ما ذكر من النعيم والأكل والشرب الهنيء فاكهةً ولحماً مما يشتهون من الفواكه واللحوم التي يشتهونها، أي ليوتي لهم بشيء لا يرغبون فيه فلكل منهم ما اشتهى‏.‏

وخص الفاكهة واللحم تمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏ منحهم الله في الآخرة لذة نشوة الخمر والمنادمة على شربها لأنها من أحسن اللذات فيما ألفتْهُ نفوسهم، وكان أهل الترف في الدنيا إذا شربوا الخمر كَسروا سورة حدتها في البطن بالشِواء من اللحم قال النابغة يصف قرن الثور‏:‏

سفُّود شَرْب نَسُوه عند مُفْتَأد ***

ويدفعون لذغ الخمر عن أفواههم بأكل الفواكه ويسمونها النُّقْل بضم النون وفتحها ويكون من ثمار ومقاث‏.‏

ولذلك جيء بقوله‏:‏ ‏{‏يتنازعون‏}‏ حالاً من ضمير الغائب في ‏{‏أمددناهم بفاكهة‏}‏ الخ‏.‏ والتنازع أطلق على التداول والتعاطي‏.‏ وأصله تفاعل من نزع الدلو من البئر عند الاستقاء فإن الناس كانوا إذا وردوا للاستقاء نزع أحدهم دلواً من الماء ثم ناول الدلو لمن حوله وربما كان الرجل القوي الشديد ينزع من البئر للمستقين كلهم يكفيهم تعب النزع، ويسمى الماتح بمثناة فوقية‏.‏

وقد ذكر الله تعالى نزع موسى عليه السلام لابنتي شعيب لما رأى انقباضهما عن الاندماج في الرعاء‏.‏ وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه نَزْعَه على القليب ثم نَزْعَ أبي بكر رضي الله عنه ثم نزع عمر رضي الله عنه‏.‏ ثم استعير أو جعل مجازاً عن المداولة والمعاورة في مناولة أكؤس الشراب، قال الأعشى‏:‏

نازعتهم قُضب الريحان متكئاً *** وخمرةً مُزَّة راووقها خَضل

والمعنى‏:‏ أن بعضهم يصبّ لبعضضٍ الخمرَ ويناوله إيثاراً وكرامة‏.‏

وقيل‏:‏ تنازعهم الكأس مجاذبة بعضهم كأس بعض إلى نفسه للمداعبة كما قال امرؤ القيس في المداعبة على الطعام‏:‏

فظل العذارى يرتَمينَ بلَحْمِها *** وشحم كهُدَّاب الدمقس المفتَّل

والكأس‏:‏ إناء تشربَ فيه الخمر لا عروة له ولا خرطوم، وهو مؤنث، فيجوز أن يكون هنا مراداً به الإِناء المعروف ومراداً به الجنس، وتقدم قوله في سورة الصافات ‏(‏45‏)‏ ‏{‏يطاف عليهم بكأس من معين‏}‏ وليس المراد أنهم يشربون في كأس واحدة بأخذ أحدهم من آخر كأسه‏.‏ ويجوز أن يراد بالكأس الخمر، وهو من إطلاق اسم المحل على الحالّ مثل قولهم‏:‏ سَال الوادي وكما قال الأعشى‏:‏

نازعتُهم قضُب الريحان متكئاً‏.‏ ***

وجملة ‏{‏لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏ يجوز أن تكون صفة ل«كأس» وضمير ‏{‏لا لغو فيها‏}‏ عائداً إلى «كأس» ووصف الكأس ب ‏{‏لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏‏.‏ إن فُهم الكأس بمعنى الإِناء المعروف فهو على تقدير‏:‏ لا لغو ولا تأثيم يصاحبها، فإن ‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية التي تؤوّل بالملابسة، كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وجاهدوا في اللَّه حق جهاده‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ففيهما أي والديك فجاهد ‏"‏ أي جاهد ببرهما، أو تُأوَّل ‏(‏في‏)‏ بمعنى التعليل كقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً ‏"‏‏.‏ وإن فهم الكأس مراداً به الخمر كانت ‏(‏في‏)‏ مستعارة للسببية، أي لا لغو يقع بسبب شربها‏.‏ والمعنى على كلا الوجهين أنها لا يخالط شاربيها اللغوُ والإِثم بالسباب والضرب ونحوه، أي أن الخمر التي استعملت الكأس لها ليست كخمور الدنيا، ويجوز أن تكون جملة ‏{‏لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏ مستأنفة ناشئة عن جملة ‏{‏يتنازعون فيها كأساً‏}‏، ويكون ضمير ‏{‏فيها‏}‏ عائداً إلى ‏{‏جنات‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إن المتقين في جنات‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 17‏]‏ مثل ضمير ‏{‏فيها كأساً‏}‏، فتكون في الجملة معنى التذييل لأنه إذا انتفى اللغو والتأثيم عن أن يكونا في الجنة انتفى أن يكونا في كأس شُرب أهل الجنة‏.‏

ومثل هذين الوجهين يأتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن للمتقين مفازاً حدائق وأعناباً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً‏}‏ في سورة النبأ ‏(‏31 35‏)‏‏.‏

واللغو‏:‏ سِقْط الكلام والهذيان الذي يصدر عن خلل العقل‏.‏

والتأثيم‏:‏ ما يؤثَّم به فاعله شَرعاً أو عادة من فعل أو قول مثل الضرب والشتم وتمزيق الثياب وما يشبه أفعال المجانين من آثار العربدة مما لا يخلو عنه الندامى غالباً، فأهل الجنة منزهون عن ذلك كله لأنهم من عالم الحقائق والكمالات فهم حكماء علماء، وقد تمدَّحَ أصحاب الأحلام من أهل الجاهلية بالتنزه عن مثل ذلك، ومنهم من اتقى ما يعرض من الفلتات فحرَّم على نفسه الخمر مثل قيس بن عاصم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏ برفعهما على أن ‏(‏لا‏)‏ مشبهَّة ب ‏(‏ليس‏)‏‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتحهما على أن ‏(‏لا‏)‏ مشبهة ب ‏(‏إنَّ‏)‏ وهما وجهان في نفي النكرة إذا كانت إرادة الواحد غيرَ محتمَلة ومثله قولها في حديث أم زرع‏:‏ «زوجي كَلَيلِ تهامة لا حَرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة» رُويت النكرات الأربع بالرفع وبالنصب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏يتنازعون فيها كأساً‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 23‏]‏ فهو من تمامه وواقع موقع الحال مثله، وجيء به في صيغة المضارع للدلالة على التجدد والتكرر، أي ذلك لا ينقطع بخلاف لذات الدنيا فإنها لا بد لها من الانقطاع بنِهايات تنتهي إليها فتُكرَّه لأصحابها الزيادةُ منها مثللِ الغَوْل، والإِطباق، ووجع الأمعاء في شرب الخمر ومثل الشبع في تناول الطعام وغير ذلك من كل ما يورث العجز عن الازدياد عن اللذة ويجعل الازدياد ألماً‏.‏

ولم يستثن من ذلك إلا لذات المعارف ولذات المناظر الحسنة والجمال‏.‏

ولما أشعر فعل ‏{‏يطوف‏}‏ بأن الغلمان يناولونهم ما فيه لذاتهم كان مشعراً بتجدد المناولة وتجدد الطواف وقد صار كل ذلك لذة لا سآمة منها‏.‏

والطواف‏:‏ مشي متكرر ذهاباً ورجوعاً وأكثر ما يكون على استدارة، ومنه طواف الكعبة، وأهل الجاهلية بالأصنام ولأجله سمي الصنم دواراً لأنهم يدورون به‏.‏ وسمي مشي الغلماء بينهم طوافاً لأن شأن مجالس الأحبة والأصدقاء أن تكون حلقاً ودوائر ليستووا في مرآهم كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الصافات ‏(‏44‏)‏ ‏{‏على سرر متقابلين‏}‏ ومنه جعلت مجالس الدروس حلقاً وكانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم حلقاً‏.‏ وقد أطلق على مناولة الخمر إدارة فقيل‏:‏ أدارت الحارثة الخمر، وهذا الذي يناول الخمر المدير‏.‏

وترك ذكر متعلق ‏{‏يطوف‏}‏ لظهوره من قوله‏:‏ ‏{‏يتنازعون فيها كأساً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأمددناهم بفاكهة‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 22‏]‏ ودل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 45، 46‏]‏ فلما تقدم ذكر ما شأنه أن يطاف به هنا ترك ذكره بعد فعل ‏{‏يطاف‏}‏ بخلاف ما في الآيتين الأخريين‏.‏

والغلمان‏:‏ جمع غلام، وحقيقته من كان في سنّ يقارب البلوغ أو يبلغه، ويطلق على الخادم لأنهم كانوا أكثر ما يتخذون خَدمهم من الصغار لعدم الكلفة في حركاتهم وعدم استثقال تكليفهم، وأكثر ما يكونون من العبيد ومثله إطلاق الوليدة على الأمة الفتية كأنها قريبة عهد بولادة أمها‏.‏

فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏غلمان لهم‏}‏‏:‏ خدمة لهم‏.‏ وعبر عنهم بالتنكير وتعليق لام الملك بضمير ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ دون الإِضافة التي هي على تقدير اللام لما في الإِضافة من معنى تعريف المضاف بالانتساب إلى المضاف إليه عند السامع من قَبل‏.‏ وليس هؤلاء الغلمان بمملوكين للمؤمنين ولكنهم مخلوقون لخدمتهم خلقهم الله لأجلهم في الجنة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويطوف عليهم ولدان مخلدون‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 19‏]‏ وهذا على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏ أي صنف من عبادنا غير معروفين للناس‏.‏

وشبهوا باللؤلؤ المكنون في حسن المرأى‏.‏ واللؤلؤ‏:‏ الدُرّ‏.‏ والمكنون‏:‏ المخزون لنفاسته على أربابه فلا يتحلى به إلا في المحافل والمواكب فلذلك يبقى على لمعانه وبياضه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ‏(‏26‏)‏ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏يتنازعون فيها كأساً‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 23‏]‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وقد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، أي هم في تلك الأحوال قد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏.‏

ولما كان إلحاق ذرياتهم بهم مقتضياً مشاركتهم إياهم في النعيم كما تقدم آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏ألحقنا بهم ذريتهم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏ كان هذا التساؤل جارياً بين الجميع من الأصول والذريات سائلين ومسؤولين‏.‏

وضمير ‏{‏بعضهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏المتقين‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 17‏]‏ وعلى ‏{‏ذريتهم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏قالوا‏}‏ بيان لجملة ‏{‏يتساءلون‏}‏ على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏ ضمير ‏{‏قالوا‏}‏ عائد إلى البعضين، أي يقول كل فريق من المتسائلين للفريق الآخر هذه المقالة‏.‏

والإِشفاق‏:‏ توقع المكروه وهو ضد الرجاء، وهذا التوقع متفاوت عند المتسائلين بحسب تفاوت ما يوجبه من التقصير في أداء حق التكليف، أو من العصيان‏.‏ ولذلك فهو أقوى في جانب ذريات المؤمنين الذين أُلحقوا بأصولهم بدون استحقاق‏.‏ ولعله في جانب الذريات أظهر في معنى الشكر لأن أصولهم من أهلهم فهم يعلمون أن ذرياتهم كانوا مشفقين من عقاب الله تعالى أو بمنزلة من يعلم ذلك من مشاهدة سَيرهم في الوفاء بحقوق التكليف، وكذلك أصولهم بالنسبة إلى من يعلم حالهم من أصحابهم أو يسمع منهم إشفاقهم واستغفارهم‏.‏ وحذف متعلق ‏{‏مشفقين‏}‏ لأنه دل عليه ‏{‏ووقانا عذاب السموم‏}‏‏.‏

وعلى هذا الوجه يكون معنى ‏(‏في‏)‏ الظرفية‏.‏ ويتعلق ‏{‏في أهلنا‏}‏ ب ‏{‏كنا‏}‏، أي حين كنا في ناسنا في الدنيا‏.‏ ف ‏{‏أهلنا‏}‏ هنا بمعنى آلنَا‏.‏

ويجوز أن تكون المقالة صادرة من الذين آمنوا يخاطبون ذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم يكونوا يحسبون أنهم سيلحقون بهم‏:‏ فالمعنى‏:‏ إنا كنا قبل مشفقين عليكم، فتكون ‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية المفيدة للتعليل، أي مشفقين لأجلكم‏.‏

ومعنى ‏{‏فمن الله علينا‏}‏ من علينا بالعفو عنكم فأذهب عنا الحزن ووقانا أن يعذبكم بالنار‏.‏ فلما كان عذاب الذريات يحزن آباءهم جعلت وقاية الذريات منه بمنزلة وقاية آبائهم فقالوا‏:‏ ‏{‏ووقانا عذاب السموم‏}‏ إغراقاً في الشكر عنهم وعن ذرياتهم، أي فمنّ علينا جميعاً ووقانا جميعاً عذاب السموم‏.‏

والسَموم بفتح السين، أصله اسم الريح التي تهبّ من جهة حارّة جداً فتكون جافّة شديدة الحرارة وهي معروفة في بلاد العرب تهلك من يتنشقها‏.‏ وأطلق هنا على ريح جهنم على سبيل التقريب بالأمر المعروف، كما أطلقت على العنصر الناري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجان خلقناه من قبل من نار السموم‏}‏ في سورة الحجر ‏(‏27‏)‏ وكل ذلك تقريب بالمألوف‏.‏

وجملة إنا كنا من قبل ندعوه‏}‏ تعليل لمنة الله عليهم وثناء على الله بأنه استجاب لهم، أي كنا من قبل اليوم ندعوه، أي في الدنيا‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏ندعوه‏}‏ للتعميم، أي كنا نبتهل إليه في أمورنا، وسبب العموم داخل ابتداء، وهو الدعاء لأنفسهم ولذرياتهم بالنجاة من النار وبنوال نعيم الجنة‏.‏

ولما كان هذا الكلام في دار الحقيقة لا يصدر إلا عن إلهام ومعرفة كان دليلاً على أن دعاء الصالحين لأبنائهم وذرياتهم مرجو الإِجابة، كما دل على إجابة دعاء الصالحين من الأبناء لآبائهم على ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» فذكر «وولد صالح يدعو له بخير»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنه هو البر الرحيم‏}‏ قرأه نافع والكسائي وأبو جعفر بفتح همزة ‏(‏أنه‏)‏ على تقدير حرف الجر محذوفاً حذفاً مطّرداً مع ‏(‏أَنَّ‏)‏ وهو هنا اللام تعليلاً ل ‏{‏ندعوه‏}‏، وقرأه الجمهور بكسر همزة ‏(‏إن‏)‏ وموقع جملتها التعليل‏.‏

والبَر‏:‏ المُحسن في رفق‏.‏

والرحيم‏:‏ الشديد الرحمة وتقدم في تفسير سورة الفاتحة‏.‏

وضمير الفصل لإِفادة الحصر وهو لقصر صفتي ‏{‏البر‏}‏ و‏{‏الرحيم‏}‏ على الله تعالى وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد ببرور غيره ورحمة غيره بالنسبة إلى برور الله ورحمته باعتبار القوة فإن غير الله لا يبلغ بالمبرة والرحمة مبلغ ما لله وباعتبار عموم المتعلق، وباعتبار الدوام لأن الله بر في الدنيا والآخرة، وغير الله برّ في بعض أوقات الدنيا ولا يملك في الآخرة شيئاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏

تفريع على ما تقدم كله من قوله‏:‏ ‏{‏إن عذاب ربك لواقع‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 7‏]‏ لأنه تضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المكذبين والافتراء عليه، وعقب بهذا لأن من الناس مؤمنين به متيقنين أن الله أرسله مع ما أعد لكلا الفريقين فكان ما تضمنه ذلك يقتضي أن في استمرار التذكير حكمة أرادها الله، وهي ارعواء بعض المكذبين عن تكذيبهم وازدياد المصدقين توغلاً في إيمانهم، ففرع على ذلك أن أمر الله رسول صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير‏.‏

فالأمر مستعمل في طلب الدوام مثل ‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏ ولما كان أثر التذكير أَهمَّ بالنسبة إلى فريق المكذبين ليهتدي من شرح قلبه للإِيمان رُوعي ما يَزيد النبي صلى الله عليه وسلم ثباتاً على التذكير من تبرئته مما يواجهونه من قولهم له‏:‏ هو كاهن أو هو مجنون، فربط الله جَأش رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بأن براءته من ذلك نعمة أنعم بها عليه ربه تعالى ففرع هذا الخبر على الأمر بالتذكير بقوله‏:‏ ‏{‏فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون‏}‏‏.‏ والباء في ‏{‏بنعمت ربك‏}‏ للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير ‏{‏أنت‏}‏‏.‏

ونفي هاذين الوصفين عنه في خطاب أمثاله ممن يستحق الوصف بصفات الكمال يدل على أن المراد من النفي غرض آخر وهو هنا إبطال نسبة من نسبه إلى ذلك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما صاحبكم بمجنون‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 22‏]‏، ولذلك حسن تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون شاعر‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ مصرحاً فيه ببعض أقوالهم، فعلم أن المنفي عنه فيما قبله مقالة من مقالهم‏.‏

وقد اشتملت هاته الكلمة الطيبة على خصائص تناسب تعظيم من وجهت إليه وهي أنها صيغت في نظم الجملة الاسمية فقيل فيها «ما أنت بكاهن» دون‏:‏ فلست بكاهن، لتدل على ثبات مضمون هذا الخبر‏.‏

وقدم فيها المسند إليه مع أن مقتضى الظاهر أن يقدم المسند وهو ‏{‏كاهن‏}‏ أو ‏{‏مجنون‏}‏ لأن المقام يقتضي الاهتمام بالمسند ولكن الاهتمام بالضمير المسند إليه كان أرجح هنا لما فيه من استحضار معاده المشعر بأنه شيء عظيم وأفاد مع ذلك أن المقصود أنه متصف بالخبر لا نفس الإِخبار عنه بالخبر كقولنا‏:‏ الرسول يأكل الطعام ويتزوج النساء‏.‏ وأفاد أيضاً قصراً إضافياً بقرينة المقام لقلب ما يقولونه أو يعتقدونه من قولهم‏:‏ هو كاهن أو مجنون، على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وقرن الخبر المنفي بالباء الزائدة لتحقيق النفي فحصل في الكلام تقويتان، وجيء بالحال قبل الخبر، أو بالجملة المعترضة بين المبتدأ والخبر، لتعجيل المسرة وإظهار أن الله أنعم عليه بالبراءة من هذين الوصفين‏.‏

وعدل عن استحضار الجلالة بالاسم العلم إلى تعريفه بالإِضافة وبوصفه الرب لإِفادة لطفه تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم لأنه ربه فهو يربُّه ويدبر نفعه، ولتفيد الإضافة تشريف المضاف إليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون‏}‏ ردّ على مقالة شَيبة بن ربيعة قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كاهن، وعلى عقبة بن أبي معيط إذ قال‏:‏ هو مجنون، ويدل لكونه رداً على مقالة سبقت أنه أتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون شاعر‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ ما سيكون وما خفي مما هو كائن‏.‏

والكاهن‏:‏ الذي ينتحل معرفة ما سيحدث من الأمور وما خفي مما هو كائن ويخبر به بكلام ذي أسْجاع قصيرة‏.‏ وكان أصل الكلمة موضوعة لهذا المعنى غير مشتقة، ونظيرها في العبرية ‏(‏الكوهين‏)‏ وهو حافظ الشريعة والمفتي بها، وهو من بني ‏(‏لاوي‏)‏، وتقدم ذكر الكهانة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنزلت به الشياطين‏}‏ في سورة الشعراء ‏(‏210‏)‏‏.‏

وقد اكتُفي في إبطال كونه كاهناً أو مجنوناً بمجرد النفي دون استدلال عليه، لأن مجرد التأمل في حال النبي صلى الله عليه وسلم كاففٍ في تحقق انتفاء ذينك الوصفين عنه فلا يحتاج في إبطال اتصافه بهما إلى أكثر من الإِخبار بنفيهما لأن دليله المشاهدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

إن كانت ‏{‏أم‏}‏ مجردة عن عمل العطف فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، وإلا فهي عطف على جملة ‏{‏فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وعن الخليل كل ما في سورة الطور من ‏(‏أم‏)‏ فاستفهام وليس بعطف، يعني أن المعنى على الاستفهام لا على عطف المفردات‏.‏ وهذا ضابط ظاهر‏.‏ ومراده‏:‏ أن الاستفهام مقدر بعد ‏(‏أم‏)‏ وهي منقطعة وهي للإِضراب عن مقالتهم المردودة بقوله‏:‏ ‏{‏فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 29‏]‏ للانتقال إلى مقالة أخرى وهي قولهم‏:‏ «هو شاعر نتربص به ريب المنون»‏.‏ وعدل عن الإِتيان بحرف ‏(‏بل‏)‏ مع أنه أشهر في الإِضراب الانتقالي، لقصد تضمن ‏{‏أم‏}‏ للاستفهام‏.‏ والمعنى‏:‏ بل أيقولون شاعر الخ‏.‏ والاستفهام المقرّر إنكاري‏.‏

ومناسبة هذا الانتقال أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير يُشير إلى مقالاتهم التي يردون بها دعوته فلما أشير إلى بعضها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 29‏]‏ انتقل إلى إبطال صفة أخرى يثلثون بها الصفتين المذكورتين قبلها وهي صفة شاعر‏.‏

روى الطبري عن قتادة قال قائلون من الناس‏:‏ تربصوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعرَ بني فلان وشاعر بني فلان، ولم يعينوا اسم الشاعر ولا أنه كان يهجو كفار قريش‏.‏

وعن الضحاك ومجاهد‏:‏ أن قريشاً اجتمعوا في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمد صلى الله عليه وسلم فقال بنو عبد الدار‏:‏ هو شاعر تربصوا به ريب المنون، فسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت هذه الآية فحكت مقالتهم كما قالوها، أي فليس في الكلام خصوص ارتباط بين دعوى أنه شاعر، وبين تربص الموت به لأن ريب المنون يصيب الشاعر والكاهن والمجنون‏.‏ وجاء ‏{‏يقولون‏}‏ مضارعاً للدّلالة على تجدد ذلك القول منهم‏.‏ والتربص مبالغة في‏:‏ الرَّبْص، وهو الانتظار‏.‏

والريب هنا‏:‏ الحدثان، وفسر بصرف الدهر، وعن ابن عباس‏:‏ ريب في القرآن شك إلا مكاناً واحداً في الطور ‏{‏ريب المنون‏}‏‏.‏

والباء في ‏{‏به‏}‏ يجوز أن تكون للسبب، أي بسببه، أي نتربص لأجله فتكون الباء متعلقة ب ‏{‏نتربص‏}‏ ويجوز أن تكون للملابسة وتتعلق ب ‏{‏ريب المنون‏}‏ حالاً منه مقدمة على صاحبها، أي حلول ريب المنون به‏.‏

والمنون‏:‏ من أسماء الموت ومن أسماء الدهر، ويذكّر‏.‏ وقد فُسر بكلا المعنيين، فإذا فسر بالموت فإضافة ‏{‏ريب‏}‏ إليه بيانية، أي الحدثان الذي هو الموت وإذا فسر المنون بالدهر فالإِضافة على أصلها، أي أحداث الدهر من مثل موت أو خروج من البلد أو رجوع عن دعوته، فريب المنون جنس وقد ذكروا في مقالتهم قولهم‏:‏ فسيهلك، فاحتملت أن يكونوا أرادوه بيانَ ريب الموت أو إن أرادوه مثالاً لريب الدهر، وكلا الاحتمالين جار في الآية لأنها حكت مقالتهم‏.‏

وقد ورد ‏{‏ريب المنون‏}‏ في كلام العرب بالمعنيين؛ فمن وروده في معنى الموت قول أبي ذؤيب‏:‏

أمن المنون وريبها تتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع

ومن وروده بمعنى حدثنان الدهر قول الأعشى‏:‏

أإن رأت رجلاً أعشى أضرَّ بِهِ *** ريبُ المنوننِ ودهرٌ مُتبِل خَبِلُ

أراد أضرّ بذاته حدَثان الدهر، ولم يرد إصابة الموت كما أراد أبو ذؤيب‏.‏

ولما كان انتفاء كونه شاعراً أمراً واضحاً يكفي فيه مجردُ التأمل لم يتصد القرآن للاستدلال على إبطاله وإنما اشتملت مقالتهم على أنهم يتربصون أن يحلّ به ما حلّ بالشعراء الذين هم من جملة الناس‏.‏

فأمر الله تعالى نبيئه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم عن مقالتهم هذه بأن يقول‏:‏ ‏{‏تربصوا فإنى معكم من المتربصين‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 31‏]‏، وهو جواب منصف لأن تربص حلول حوادث الدهر بأحد الجانيين أو حلول المنية مشترك الإِلزام لا يدري أحدنا ماذا يحل بالآخر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

وردت جملة ‏{‏قل تربصوا‏}‏ مفصولة بدون عطف لأنها وقعت في مقام المحاورة لسبقها بجملة ‏{‏يقولون شاعر‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ الخ، فإن أمر أحد بأن يقول بمنزلة قوله فأُمر بقوله، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏‏.‏

والأمر في ‏{‏تربصوا‏}‏ مستعمل في التسوية، أي سواء عندي تربصكم بي وعدمه‏.‏ وفرع عليه ‏{‏فإني معكم من المتربصين‏}‏ أي فإني متربص بكم مثل ما تتربصون بي إذ لا ندري أينا يصيبه ريب المنون قبل‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏(‏إن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فإني معكم من المتربصين‏}‏ لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر أنه يتربص بهم كما يتربصون به لأنهم لغرورهم اقتصروا على أنهم يتربصون به ليروا هلاكه، فهذا من تنزيل غير المنكر منزلة المنكر‏.‏

والمعية في قوله‏:‏ ‏{‏معكم‏}‏ ظاهرها أنها للمشاركة في وصف التربص‏.‏

ولمّا كان قوله‏:‏ ‏{‏من المتربصين‏}‏ مقدراً معه «بكم» لمقابلة قولهم‏:‏ ‏{‏نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ كان في الكلام توجيه بأنه يبقى معهم يتربص هلاكهم حين تبدو بوادره، إشارة إلى أن وقعة بدر إذْ أصابهم من الحدثان القتل والأسر، فتكون الآية مشيرة إلى صريح قوله تعالى في سورة براءة ‏(‏52‏)‏ ‏{‏قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللَّه بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون‏.‏ وإنما قال هنا‏:‏ من المتربصين‏}‏ ليشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يتربص بهم ريب المنون في جملة المتربصين من المؤمنين، وذلك ما في آية سورة براءة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‏.‏

وقد صيغ نظم الكلام في هذه الآية على ما يناسب الانتقال من غرض إلى غرض وذلك بما نُهِّي به من شبه التذييل بقوله‏:‏ ‏{‏قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين‏}‏ إذ تمت به الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم بهاذآ‏}‏‏.‏

إضراب انتقال دعا إليه ما في الاستفهام الإِنكاري المقدّر بعد ‏{‏أم‏}‏ من معنى التعجيب من حالهم كيف يقولون مثل ذلك القول السابق ويستقر ذلك في إدراكهم وهم يدّعون أنهم أهل عقول لا تلتبس عليهم أحوال الناس فهم لا يجهلون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بحال الكهان ولا المجانين ولا الشعراء وقد أبى عليهم الوليد بن المغيرة أن يقول مثل ذلك في قصة معروفة‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وكانت قريش يُدعون أهل الأحلام والنُهى والمعنى‏:‏ أم تأمرهم أحلامهم المزعومة بهذا القول‏.‏

والإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏بهذا‏}‏ إلى المذكور من القول المعرِّض به في قوله‏:‏ ‏{‏فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 29‏]‏، والمُصرح به في قوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏، وهذا كما يقول من يلوم عاقلاً على فعل فعله ليس من شأنه أن يجهل ما فيه من فساد‏:‏ أعَاقِلٌ أنت‏؟‏ أو هذا لا يفعله عاقل بنفسه، ومنه ما حكى الله عن قوم شعيب من قولهم له‏:‏ ‏{‏إنك لأنت الحليم الرشيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏‏.‏

والحلم‏:‏ العقل، قال الراغب‏:‏ المانعُ من هيجان الغضب‏.‏ وفي «القاموس» هو الأناة‏.‏ وفي «معارج النور»‏:‏ والحلم ملكة غريزية تُورث لصاحبها المعاملة بلطف ولين لمن أساء أو أزعج اعتدال الطبيعة‏.‏

ومعنى إنكار أن تأمرهم أحلامهم بهذا أن الأحلام الراجحة لا تأمر بمثله، وفيه تعريض بأنهم أضاعوا أحلامهم حين قالوا ذلك لأن الأحلام لا تأمر بمثله فهم كمن لا أحلام لهم وهذا تأويل ما روي أن الكافر لا عقل له‏.‏ قالوا وإنما للكافر الذهن والذهن يقبل العِلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لِحدود الأمر والنهي‏.‏

والأمر في ‏{‏تأمرهم‏}‏ مستعار للباعث، أي تبعثهم أحلامهم على هذا القول‏.‏

‏{‏أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏‏.‏

إضرابُ انتقالي أيضاً متصل بالذي قبله انتقل به إلى استفهام عن اتصافهم بالطغيان‏.‏ والاستفهام المقدر مستعمل‏:‏ إما في التشكيك ليكون التشكيك باعثاً على التأمل في حالهم فيؤمن بأنهم طاغون، وإمّا مستعمل في التقرير لكل سامع إذ يجدهم طاغين‏.‏

وإقحام كلمة ‏{‏قوم‏}‏ يمهّد لكون الطغيان من مقومات حقيقة القومية فيهم، كما قدمناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏، أي تأصل فيهم الطغيان وخالط نفوسهم فدفعهم إلى أمثال تلك الأقوال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

انتقال متصل بقوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون شاعر‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ الخ‏.‏ وهذا حكاية لإِنكارهم أن يكون القرآن وحياً من الله، فزعموا أنه تقوّله النبي صلى الله عليه وسلم على الله، فالاستفهام إنكار لقولهم، وهم قد أكثروا من الطعن وتمالؤوا عليه ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة ‏{‏يقولون‏}‏ المفيدة للتجدد‏.‏

والتقول‏:‏ نسبة كلام إلى أحد لم يقله، ويتعدى إلى الكلام بنفسه ويتعدى إلى من يُنسب إليه بحرف ‏(‏على‏)‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44، 45‏]‏ الآية‏.‏ وضمير النصب في ‏{‏تقوله‏}‏ عائد إلى القرآن المفهوم من المقام‏.‏

وابتدئ الرد عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏بل لا يؤمنون‏}‏ لتعجيل تكذيبهم قبل الإِدلاء بالحجة عليهم وليكون ورود الاستدلال مفرّعاً على قوله‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ بمنزلة دليل ثان‏.‏ ومعنى ‏{‏لا يؤمنون‏}‏‏:‏ أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقوّل القرآن بيّنة لديهم ولكن الزاعمين ذلك يأبون الإِيمان فهم يبادرون إلى الطعن دون نظر ويلقون المعاذير ستراً لمكابرتهم‏.‏

ولما كانت مقالتهم هذه طعناً في القرآن وهو المعجزة القائمة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكانت دعواهم أنه تقوّل على الله من تلقاء نفسه قد تروج على الدهماء تصدى القرآن لبيان إبطالها بأن تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين‏}‏ أي صادقين في أن محمداً صلى الله عليه وسلم تقوله من تلقاء نفسه، أي فعجزهم عن أن يأتوا بمثله دليل على أنهم كاذبون‏.‏

ووجه الملازمة أن محمداً صلى الله عليه وسلم أحد العرب وهو ينطق بلسانهم‏.‏ فالمساواة بينه وبينهم في المقدرة على نظم الكلام ثابتة، فلو كان القرآن قد قاله محمد صلى الله عليه وسلم لكان بعض خاصة العرب البلغاء قادراً على تأليف مثله، فلما تحدّاهم الله بأن يأتوا بمثل القرآن وفيهم بلغاؤهم وشعراؤهم وكلمتهم وكلهم واحد في الكفر كان عجزهم عن الإِتيان بمثل القرآن دالاً على عجز البشر عن الإِتيان بالقرآن ولذلك قال تعالى في سورة هود ‏(‏13، 14‏)‏‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون اللَّه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم اللَّه‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏‏.‏

والإِتيان بالشيء‏:‏ إحضاره من مكان آخر‏.‏ واختير هذا الفعل دون نحو‏:‏ فليقولوا مثلَه ونحوه، لقصد الإِعذار لهم بأن يُقتنع منهم بجلب كلام مثله ولو من أحد غيرهم، وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة ‏(‏23‏)‏ ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ أنه يحتمل معنيين، هما‏:‏ فأتوا بسورة من مثل القرآن، أو فأتوا بسورة من مثل الرسول، أي من أحد من الناس‏.‏

والحديث‏:‏ الإِخبار بالحوادث، وأصل الحوادث أنها الواقعات الحديثة، ثم توسع فأطلقت على الواقعات، ولو كانت قديمة كقولهم‏:‏ حوادث سنة كذا، وتَبع ذلك إطلاق الحديث على الخبر مطلقاً، وتوسع فيه فأطلق على الكلام ولو لم يكن إخباراً، ومنه إطلاق الحديث على كلام النبي‏.‏

فيجوز أن يكون الحديث هنا قد أطلق على الكلام مجازاً بعلاقة الإِطلاق، أي فليأتوا بكلام مثله، أي في غرض من الأغراض التي يشتمل عليها القرآن لا خصوص الأخبار‏.‏ ويجوز أن يكون الحديث هنا أطلق على الأخبار، أي فليأتوا بأخبار مثل قصص القرآن فيكون استنزالاً لهم فإن التكلم بالأخبار أسهل على المتكلم من ابتكار الأغراض التي يتكلم فيها، فإنهم كانوا يقولون إن القرآن أساطير الأولين، أي أخبار عن الأمم الماضين فقيل لهم‏:‏ فليأتوا بأخبار مثل أخباره لأن الإِتيان بمثل ما في القرآن من المعارف والشرائع والدلائل لا قِبَل لعقولهم به، وقصاراهم أن يفهموا ذلك إذا سمعوه‏.‏

ومعنى المثلية في قوله‏:‏ مثله‏}‏ المثلية في فصاحته وبلاغته، وهي خصوصيات يدركونها إذا سمعوها ولا تحيط قرائحهم بإيداعها في كلامهم‏.‏ وقد بينا أصول الإِعجاز في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

ولام الأمر في ‏{‏فليأتوا‏}‏ مستعملة في أمر التعجيز كقوله حكاية عن قول إبراهيم ‏{‏إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْتتِ بها من المغرب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن كانوا صادقين‏}‏ أي في زعمهم أنه تقوّله، أي فإن لم يأتوا بكلام مثله فهم كاذبون‏.‏ وهذا إلهاب لعزيمتهم ليأتوا بكلام مثل القرآن ليكون عدم إتيانهم بمثله حجة على كذبهم وقد أشعر نظم الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين‏}‏ الواقععِ موقعاً شبيهاً بالتذييل والمختوممِ بكلمة الفاصلة، أنه نهاية غرض وأن ما بعده شروع في غرض آخر كما تقدم في نظم قوله‏:‏ ‏{‏قل تربصوا فإني معكم من المتربصين‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 31‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ‏(‏35‏)‏ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ‏}‏‏.‏

إضراب انتقالي إلى إبطال ضرب آخر من شبهتهم في إنكارهم البعث، وقد علمت في أول السورة أن من أغراضها إثبات البعث والجزاءِ على أن ما جاء بعده من وصف يوم الجزاء وحال أهله قد اقتضته مناسبات نشأت عنها تلك التفاصيل، فإذْ وُفّي حقُّ ما اقتضته تلك المناسبات ثُنِي عِنان الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وإبطال شبهتهم التي تعللوا بها من نحو قولهم‏:‏ ‏{‏أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون خلقاً جديداً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏‏.‏

فكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم خلقوا من غير شيء‏}‏ الآيات أدلةً على أن ما خلقه الله من بَدْء الخلق أعظم من إعادة خلق الإِنسان‏.‏ وهذا متصل بقوله آنفاً ‏{‏إن عذاب ربك لواقع‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 7‏]‏ لأن شبهتهم المقصود ردها بقوله‏:‏ ‏{‏إن عذاب ربك لواقع هي قولهم‏:‏ ‏{‏أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏، ونحو ذلك‏.‏

فحرف ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من غير شيء‏}‏ يجوز أن يكون للابتداء، فيكون معنى الاستفهام المقدر بعد ‏(‏أم‏)‏ تقريرياً‏.‏ والمعنى‏:‏ أيقرُّون أنهم خلقوا بعد أن كانوا عَدماً فكلما خلقوا من عدم في نشأتهم الأولى يُنْشأون من عدم في النشأة الآخرة، وذلك إثبات لإِمكان البعث، فيكون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسان ممَّ خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 5 8‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏ ونحو ذلك من الآيات‏.‏

ومعنى ‏{‏شيء‏}‏ على هذا الوجه‏:‏ الموجودُ فغير شَيء‏:‏ المعدومُ، والمعنى‏:‏ اخُلقوا من عدم‏.‏ ويجوز أن تكون ‏(‏مِن‏)‏ للتعليل فيكون الاستفهام المقدر بعد ‏(‏أم‏)‏ إنكارياً، ويكون اسم ‏{‏شيء‏}‏ صادقاً على ما يصلح لمعنى التعليل المستفاد من حرف ‏(‏مِن‏)‏ التعليلية، والمعنى‏:‏ إنكار أن يكون خلقهم بغير حكمة، وهذا إثبات أن البعث واقع لأجل الجزاء على الأعمال، بأن الجزاء مقتضى الحكمة التي لا يخلو عنها فعل أحكم الحكماء، فيكون في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85‏]‏‏.‏

ولحرف ‏(‏مِن‏)‏ في هذا الكلام الوَقْع البديع إذ كانت على احتمال معنييها دليلاً على إمكان البعث وعلى وقوعه وعلى وجوب وقوعه وجوباً تقتضيه الحكمة الإِلهية العليا‏.‏ ولعل العدول عن صوغ الكلام بالصيغة الغالبة في الاستفهام التقريري، أعني صيغة النفي بأن يقال‏:‏ أما خلقوا من غير شيء؛ والعدولَ عن تعيين ما أضيف إليه ‏{‏غَير‏}‏ إلى الإِتيان بلفظٍ مبهم وهو لفظ شيء، روعي فيه الصلاحية لاحتمال المعنيين وذلك من منتهى البلاغة‏.‏

وإذ كان فرض أنهم خلقوا من غير شيء واضح البطلان لم يحتج إلى استدلال على إبطاله بقوله‏:‏

‏{‏أَمْ هُمُ الخالقون * أَمْ خَلَقُواْ السماوات والارض‏}‏‏.‏

وهو إضراب انتقال أيضاً، والاستفهام المقدر بعد ‏{‏أم‏}‏ إنكاري، أي ما هم الخالقون وإذ كانوا لم يدّعوا ذلك فالانكار مرتب على تنزيلهم منزلة من يزعمون أنهم خالقون‏.‏

وصيغت الجملة في صيغة الحصر الذي طريقهُ تعريف الجُزأَيْن قصراً إضافياً للرد عليهم بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم الخالقون لا الله، لأنهم عدُّوا من المحال ما هو خارج عن قدرتهم، فجعلوه خارجاً عن قدرة الله، فالتقدير‏:‏ أم هم الخالقون لا نحن‏.‏ والمعنى‏:‏ نحن الخالقون لا هم‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏الخالقون‏}‏ لقصد العموم، أي الخالقون للمخلوقات وعلى هذا جرى الطبري وقدره المفسرون عدا الطبري‏:‏ أم هم الخالقون أنفسَهم كأنهم جعلوا ضمير ‏{‏أم خلقوا من غير شيء‏}‏ دليلاً على أن المحذوف اسم مَعاد ذلك الضمير ولا افْتراء في انتفاء أن يكونوا خالقين، فلذلك لم يُتصدّ إلى الاستدلال على هذا الانتفاء‏.‏

وجملة ‏{‏أم خلقوا السموات والأرض‏}‏ يظهر لي أنها بدل من جملة ‏{‏أم هم الخالقون‏}‏ بدلَ مفصَّل من مُجمل إن كان مفعول ‏{‏الخالقون‏}‏ المحذوفُ مراداً به العمومُ وكان المراد بالسماء والأرضضِ ذاتيهما مع من فيهما، أو بَدل بعض من كل أن المراد ذاتي السماوات والأرض، فيكون تخصيص السماوات والأرض بالذكر لعظم خلقهما‏.‏

وإعادة حرف ‏{‏أم‏}‏ للتأكيد كما يُعاد عامل المبدَل منه فِي البدل، والمعنى‏:‏ أم هم الخالقون للسماوات والأرض‏.‏

والاستفهام إنكاري والكلام كناية عن إثبات أن الله خالق السماوات والأرض‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الذي خلق السماوات والأرض لا يُعجزه إعادة الأجساد بعد الموت والفناء‏.‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يروا أن اللَّه الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 99‏]‏ أي أن يخلق أمثال أجسادهم بعد انعدامهم‏.‏

‏{‏بَل لاَّ يُوقِنُون‏}‏‏.‏

إضراب إبطال على مضمون الجملتين اللتين قبله، أي لم يُخلقوا من غير شيء ولا خَلقوا السماوات والأرض، فإن ذلك بينّ لهم فما إنكارهم البعث إلا ناشئ عن عدم إيقانهم في مظانّ الإِيقان وهي الدلائل الدالة على إمكان البعث وأنه ليس أغرب من إيجاد المخلوقات العظيمة، فما كان إنكارهم إياه إلا عن مكابرة وتصميم على الكفر‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الأمر لا هَذا ولا ذلك ولكنهم لا يُوقنون بالبعث فهم ينكرونه بدون حجة ولا شبهة بل رانَتْ المكابرة على قلوبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّك‏}‏‏.‏

انتقال بالعود إلى ردّ جحودهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك غُيّر أسلوب الأخبار فيه إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وكان الأصل الذي ركّزوا عليه جحودهم توهمَ أن الله لو أرسل رسولاً من البشر لكان الأحقُّ بالرسالة رجلاً عظيماً من عظماء قومهم كما حكى الله عنهم‏:‏ ‏{‏أأنزل عليه الذكر من بيننا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 8‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ يعنون قرية مكة وقرية الطائف‏.‏

والمعنى‏:‏ إبطال أن يكون لهم تصرف في شؤون الربوبية فيجعلوا الأمور على مشيئتهم كالمالك في ملكه والمدبرِ فيما وُكل عليه، فالاستفهام إنكاري بتنزيلهم في إبطال النبوءة عمن لا يرضونه منزلة من عندهم خزائن الله يخلعون الخلع منها على من يشاؤون ويمنعون من يشاؤون‏.‏

والخزائن‏:‏ جمع خزينة وهي البيت، أو الصندوق الذي تخزن فيه الأقوات، أو المال وما هو نفيس عند خازنه، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال اجعلني على خزائن الأرض‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وهي هنا مستعارة لما في علم الله وإرادته من إعطاء الغير للمخلوقات، ومنه اصطفاء من هيّأهُ من الناس لتبليغ الرسالة عنه إلى البشر، وقد تقدم في سورة الأنعام ‏(‏50‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن اللَّه‏}‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللَّه اللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان اللَّه وتعالى عما يشركون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وقد سُلك معهم هنا مسلك الإِيجاز في الاستدلال بإحالتهم على مجمل أجمله قوله‏:‏ ‏{‏أم عندهم خزائن ربك‏}‏، لأن المقام مقام غضب عليهم لجرأتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم في نفي الرسالة عنه بوقاحة من قولهم‏:‏ كاهن، ومجنون، وشاعر إلخ بخلاف آية الأنعام فإنها ردّت عليهم تعريضهم أنفسهم لنوال الرسالة عن الله‏.‏

فقوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏أم عندهم خزائن ربك‏}‏ هو كقوله في سورة ص ‏(‏8، 9‏)‏ ‏{‏أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب‏}‏ وقوله في سورة الزخرف ‏(‏32‏)‏ ‏{‏أهم يقسمون رحمتَ ربك‏}‏ وكلمة عند تستعمل كثيراً في معنى الملك والاختصاص كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏، فالمعنى‏:‏ أيملكون خزائن ربك، أي الخزائن التي يملكها ربك كما اقتضته إضافة ‏{‏خزائن‏}‏ إلى ‏{‏ربك‏}‏ على نحو ‏{‏أعنده علم الغيب فهو يرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وقد عبر عن هذا باللفظ الحقيقي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 100‏]‏‏.‏

‏{‏أَمْ هُمُ المسيطرون‏}‏‏.‏

إنكار لأن يكون لهم تصرف في عطاء الله تعالى ولو دون تصرف المالك مثل تصرف الوكيل والخازن وهو ما عبر عنه بالمصيطرون‏.‏

والمصيطر‏:‏ يقال بالصاد والسين في أوله‏:‏ اسم فاعل من صيطر بالصاد والسين، إذا حفظ وتسلط، وهو فعل مشتق من سيطر إذا قطع، ومنه الساطور، وهو حديدة يقطع بها اللحم والعظم‏.‏ وصيغ منه وزن فيعل للإِلحاق بالرباعي كقولهم‏:‏ بيقر، بمعنى هلك أو تحضر، وبيطر بمعنى شق، وهيمن، ولا خامس لها في الأفعال‏.‏ وإبدال السين صاداً لغة فيه مثل الصراط والسراط‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏المصيطرون‏}‏ بصاد‏.‏ وقرأه قنبل عن ابن كثير وهشام عن ابن عامر، وحفص في رواية بالسين في أوله‏.‏

وفي معنى الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أهم يقسمون رحمتَ ربك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏، وليس في الآية الاستدلال لهذا النفي في قوله‏:‏ ‏{‏أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون‏}‏ لأن وضوحه كنار على عَلَم‏.‏ وقد تقدم في صدر تفسير هذه السورة حديث جبير بن مطعم لما سمع هذه الآية وكانت سبب إسلامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

لما نفى أن يكون لهم تصرف قوي أو ضعيف في مواهب الله تعالى على عباده أعقبه بنفي أن يكون لهم إطلاع على ما قدره الله لعباده إطلاعاً يخوّلهم إنكار أن يرسل الله بشراً أو يوحي إليه وذلك لإِبطال قولهم‏:‏ ‏{‏تقوله‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 33‏]‏‏.‏ ومثل ذلك قولهم‏:‏ ‏{‏نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ المقتضي أنهم واثقون بأنهم يشهدون هلاكه‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏يستمعون‏}‏ ليعم كلاماً من شأنه أن يسمع من الأخبار المغيبة بالمستقبل وغيره الواقع وغيره‏.‏

وسلك في نفي علمهم بالغيب طريق التهكم بهم بإنكار أن يكون لهم سُلَّم يرتقون به إلى السماء ليستمعوا ما يجري في العالم العلوي من أمر تتلقاه الملائكة أو أهل الملأ الأعلى بعضهم مع بعض فيسترقوا بعض العلم مما هو محجوب عن الناس إذ من المعلوم أنه لا سُلّم يصل أهل الأرض بالسماء وهم يعلمون ذلك ويعلمه كل أحد‏.‏

وعُلم من اسم السُّلَّم أنه آلة الصعود، وعلم من ذكر السماوات في الآية قبلها أن المراد سلم يصعدون به إلى السماء، فلذلك وصف ب ‏{‏يستمعون فيه‏}‏ أي يرتقون به إلى السماء فيستمعون وهم فيه، أي في درجاته الكلامَ الذي يجري في السماء‏.‏ و‏{‏فيه‏}‏ ظرف مستقر حال من ضمير ‏{‏يستمعون‏}‏، أي وهم كائنون فيه لا يفارقونه إذ لا يفرض أنهم ينزلون منه إلى ساحات السماء‏.‏

وإسناد الاستماع إلى ضمير جماعتهم على اعتبار أن المستمع سفير عنهم على عادة استعمال الكلام العربي من إسناد فعل بعض القبيلة إلى جميعها إذا لم تصده عن عمله في قولهم‏:‏ قتلت بنو أسد حُجْراً، ألا ترى أنه قال بعد هذا ‏{‏فليأت مستمعهم‏}‏، أي من استمع منهم لأجلهم، أي أرسلوه للسمع‏.‏ ومثل هذا الإِسناد شائع في القرآن وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب‏}‏ وما بعده من الآيات في سورة البقرة ‏(‏49‏)‏‏.‏

و ‏(‏في‏)‏ للظرفية وهي ظرفية مجازية اشتهرت حتى ساوت الحقيقة لأن الراقي في السُّلَّم يكون كله عليه، فالسلم له كالظرف للمظروف، وإذ كان في الحقيقة استعلاء ثم شاع في الكلام فقالوا‏:‏ صعد في السلم، ولم يقولوا‏:‏ صعد على السلم ولذلك اعتبرت ظرفية حقيقية، أي حقيقة عرفية بخلاف الظرفية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأصلبنكم في جذوع النخل‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏ لأنه لم يشتهر أن يقال‏:‏ صلبه في جذع، بل يقال‏:‏ صلبه على جذع، فلذلك كانت استعارة، فلا منافاة بين قول من زعم أن الظرفية مجازية وقول من زعمها حقيقة‏.‏

والفاء في ‏{‏فليأت مستمعهم بسلطان مبين‏}‏ لتفريع هذا الأمر التعجيزي على النفي المستفاد من استفهام الإِنكار‏.‏ فالمعنى‏:‏ فما يأتي مستمع منهم بحجة تدل على صدق دعواهم‏.‏ فلام الأمر مستعمل في إرادة التعجيز بقرينة انتفاء أصل الاستماع بطريق استفهام الإنكار‏.‏

والسلطان‏:‏ الحجة، أي حجة على صدقهم في نفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو في كونه على وشك الهلاك‏.‏

والمراد بالسلطان ما يدل على إطلاعهم على الغيب من أمارات كأنْ يقولوا‏:‏ آية صدقنا فيما ندعيه وسمعناه من حديث الملأ الأعلى، أننا سمعنا أنه يقع غداً حادثُ كذا وكذا مثلاً، مما لا قبل للناس بعلمه، فيقع كما قالوا ويتوسم منه صدقهم فيما عداه‏.‏ وهذا معنى وصف السلطان بالمبين، أي المظهر لصحة الدعوى‏.‏

وهذا تحدَ لهم بكذبهم فلذلك اكتفى بأن يأتي بعضهم بحجة دون تكليف جميعهم بذلك على نحو قوله‏:‏ ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ أي فليأت من يتعهد منهم بالاستماع بحجة‏.‏ وهذا بمنزلة التذييل للكلام على نحو ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 31‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 34‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ ا لبنون‏}‏‏.‏

لما جرى نفي أن تكون لهم مطالعة الغيب من الملأ الأعْلى إبطالاً لمقالاتهم في شؤون الربوبية أعقب ذلك بإبطال نسبتهم لله بنات استقصاء لإِبطال أوهامهم في المغيبات من العالم العلوي، فهذه الجملة معترض بين جملة ‏{‏أم لهم سلم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 38‏]‏ وجملة ‏{‏أم تسألهم أجراً‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 40‏]‏، ويقدر الاستفهام إنكاراً لأن يكون لله البنات‏.‏

ودليل الإِنكار في نفس الأمر استحالة الولد على الله تعالى ولكن لمَّا كانت عقول أكثر المخاطبين بهذا الرد غيرَ مستعدة لإِدراك دليل الاستحالة، وكان اعتقادهم البنات لله منكراً، تُصدِّيَ لدليل الإِبطال وسُلِك في إبطاله دليل إقناعي يتفطنون به إلى خطل رأيهم وهو قوله‏:‏ ‏{‏ولكم البنون‏}‏‏.‏

فجملة ‏{‏ولكم البنون‏}‏ في موضع الحال من ضمير الغائب، أي كيف يكون لله البنات في حال أن لكم بنين وهم يعلمون أن صنف الذكور أشرف من صنف الإِناث على الجملة كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 21، 22‏]‏‏.‏ فهذا مبالغة في تشنيع قولهم فليس المراد أنهم لو نسَبوا لله البنين لكان قولهم مقبولاً لأنهم لم يقولوا ذلك فلا طائل تحت إبطاله‏.‏

وتغيير أسلوب الغيبة المتبع ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون شاعر‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ إلى أسلوب الخطاب التفات مكافحة لهم بالرد بجملة الحال‏.‏ وتقديم ‏{‏لكم‏}‏ على ‏{‏البنون‏}‏ لإِفادة الاختصاص، أي لكم البنون دونه فهم لهم بنون وبنات، وزعموا أن الله ليس له إلا البنات‏.‏ وأما تقديم المجرور على المبتدأ في قوله‏:‏ ‏{‏أم له البنات‏}‏ فللاهتمام باسم الجلالة وقد أنهي الكلام بالفاصلة لأنه غرض مستقل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

هذا مرتبط بقوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون تقوله‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 33‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أم عندهم خزائن ربك‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 37‏]‏ إذ كل ذلك إبطال للأسباب التي تحملهم على زعم انتفاء النبوءة عن محمد صلى الله عليه وسلم فبعد أن أبطل وسائل اكتساب العلم بما زعموه عاد إلى إبطال الدواعي التي تحملهم على الإِعراض عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ولأجل ذلك جاء هذا الكلام على أسلوب الكلام الذي اتصل هُو به، وهو أسلوب خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال هنا‏:‏ ‏{‏أم تسألهم أجراً‏}‏ وقال هنالك‏:‏ ‏{‏أم عندهم خزائن ربك‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 37‏]‏‏.‏

والاستفهام المقدر بعد ‏{‏أم‏}‏ مستعمل في التهكم بهم بتنزيلهم منزلة من يتوجس خيفة من أن يسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم أجراً على إرشادهم‏.‏

والتهكم استعارة مبنية على التشبيه، والمقصود، ما في التهكم من معنى أن ما نشأ عنه التهكم أمر لا ينبغي أن يخطر بالبال‏.‏

وجيء بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏تسألهم‏}‏ لإِفادة التجدد، أي تسألهم سؤالاً متكرراً لأن الدعوة متكررة، وقد شبهت بسؤال سائل‏.‏

وتفريع ‏{‏فهم من مغرم مثقلون‏}‏ لما فيه من بيان الملازمة بين سؤال الأجر وبين تجهّم من يسأل والتحرج منه‏.‏ وقد فرع قوله‏:‏ ‏{‏فهم من مغرم مثقلون‏}‏ على الفعل المستفهم عنه لا على الاستفهام، أي ما سألتهم أجراً فيثقل غُرمه عليهم، لأن الاستفهام في معنى النفي، والإِثقال يتفرع على سؤال الأجر المفروضضِ لأن مجرد السؤال محرج للمسؤول لأنه بين الإِعطاء فهو ثقيل وبين الرد وهو صعب‏.‏

والمَغرم بفتح الميم مصدر ميمي، وهو الغُرم‏.‏ وهو ما يفرض على أحد من عوض يدفعه‏.‏

والمثقَل‏:‏ أصله المحمَّل بشيء ثقيل، وهو هنا مستعار لمن يطالب بما يعسر عليه أداؤه، شبه طلبه أداء ما يعسر عليه بحمل الشيء الثقيل على من لا يسهل عليه حمله‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ للتعليل، أي مثقلون من أجل مغرم حُمل عليهم‏.‏

والمعنى‏:‏ أنك ما كلفتهم شيئاً يعطونه إياك فيكونَ ذلك سبباً لإِعْراضهم عنك تخلصاً من أداء ما يطلب منهم، أي انتفى عذر إعراضهم عن دعوتك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

هذا نظير الإِضراب والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أن عندهم خزائن ربك‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 37‏]‏، أي بل أعندهم الغيب فهم يكتبون ما يجدونه فيه ويروونه للناس‏؟‏ أي ما عندهم الغيب حتى يكتبوه، فبعد أن رد عليهم إنكارهم الإِسلام بأنهم كالذين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم أجراً على تبليغها أعقبه برد آخر بأنهم كالذين أطلعوا على أن عند الله ما يخالف ما ادَّعى الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغه عن الله فهم يكتبون ما أطلعوا عليه فيجدونه مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

قال قتادة‏:‏ لما قالوا‏:‏ ‏{‏نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أم عندهم الغيب‏}‏ أي حتى علموا متى يموت محمد، أو إلى ما يؤول إليه أمره فجعله راجعاً إلى قوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏‏.‏ والوجه ما سمعتَه آنفاً‏.‏

والغيب هنا مصدر بمعنى الفاعل، أي ما غاب عن علم الناس‏.‏

والتعريف في ‏{‏الغيب‏}‏ تعريف الجنس وكلمة ‏(‏عند‏)‏ تؤذن بمعنى الاختصاص والاستئثار، أي استأثروا بمعرفة الغيب فعلموا ما لم يعلمه غيرهم‏.‏

والكتابة في قوله‏:‏ ‏{‏فهم يكتبون‏}‏ يجوز أنها مستعارة للجزم الذي لا يقبل التخلف كقوله‏:‏ ‏{‏كتب ربكم على نفسه الرحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏ لأن شأن الشيء الذي يراد تحقيقه والدوام عليه أن يكتب ويسجل، كما قال الحارث بن حلزة‏:‏

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء ***

فيكون الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏فهم يكتبون‏}‏ مستعملاً في معناه من إفادة النسبة الخبرية‏.‏

ويجوز أن تكون الكتابة على حقيقتها، أي فهم يسجلون ما أطلعوا عليه من الغيب ليبقى معلوماً لمن يطلع عليه ويكون الخبر من قوله‏:‏ ‏{‏فهم يكتبون‏}‏ مستعملاً في معنى الفرض والتقدير تبعاً لفرض قوله‏:‏ ‏{‏عندهم الغيب‏}‏، ويكون من باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعنده علم الغيب فهو يرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 35‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وقال لأوتين مالاً وولداً أطلع الغيب‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77، 78‏]‏‏.‏

وحاصل المعنى‏:‏ أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه ولا بإثبات ما أثبتوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

انتقال من نقض أقوالهم وإبطال مزاعمهم إلى إبطال نواياهم وعزائمهم من التبيت للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولدعوة الإِسلام من الإِضرار والإِخفاق وفي هذا كشف لسرائرهم وتنبيه للمؤمنين للحذر من كيدهم‏.‏

وحذف متعلِّق ‏{‏كيداً‏}‏ ليعم كل ما يستطيعون أن يكيدوه فكانت هذه الجملة بمنزلة التتميم لنقض غزلهم والتّذييل بما يعم كل عزم يجري في الأغراض التي جرت فيها مقالاتهم‏.‏

والكيد والمكر متقاربان وكلاهما إظهار إخفاء الضر بوجوه الإِخفاء تغريراً بالمقصودِ له الضُرُّ‏.‏

وعدل عن الإِضمار إلى الإِظهار في قوله‏:‏ ‏{‏فالذين كفروا هم المكيدون‏}‏ وكان مقتضى الظاهر أن يقال فهم المكيدون لِما تؤذن به الصلة من وجه حلول الكيد بهم لأنهم كفروا بالله، فالله يدافع عن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين وعن دينه كيدهم ويوقعهم فيما نووا إيقاعهم فيه‏.‏

وضمير الفصل أفاد القصر، أي الذين كفروا المكيدون دون من أرادوا الكيد به‏.‏

وإطلاق اسم الكيد على ما يجازيهم الله به عن كيدهم من نقض غزلهم إطلاقٌ على وجه المشاكلة بتشبيه إمهال الله إياهم في نعمة إلى أن يقع بهم العذاب بفعل الكائد لغيره، وهذا تهديد صريح لهم، وقد تقدم قوله‏:‏ ‏{‏ويمكرون ويمكر اللَّه واللَّه خير الماكرين‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏30‏)‏‏.‏ ومن مظاهر هذا التهديد ما حلّ بهم يوم بدر على غير ترقب منهم‏.‏

والقول في تفريع ‏{‏فالذين كفروا هم المكيدون‏}‏ كالقول في تفريع قوله‏:‏ ‏{‏فهم من مغرم مثقلون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 40‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

هذا آخر سهم في كنانة الرد عليهم وأشد رمي لشبح كفرهم، وهو شبح الإِشراك وهو أجمع ضلال تنضوي تحته الضلالات وهو إشراكهم مع الله آلهة أخرى‏.‏

فلما كان ما نُعي عليهم من أول السورة ناقضاً لأقوالهم ونواياهم، وكان ما هم فيه من الشرك أعظم لم يترك عَد ذلك عليهم مع اشتهاره بعد استيفاء الغرض المسوق له الكلام بهذه المناسبة، ولذلك كان هذا المنتقل إليه بمنزلة التذييل لما قبله لأنه ارتقاء إلى الأهم في نوعه والأهم يشبه الأعم فكان كالتذييل، ونظيره في الارتقاء في كمال النوع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فك رقبة أو إطعام إلى قوله‏:‏ ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 13 17‏]‏ الآية‏.‏

وقد وقع قوله‏:‏ ‏{‏سبحان الله عما يشركون‏}‏ إتماماً للتذييل وتنهية المقصود من فضح حالهم‏.‏

وظاهر أن الاستفهام المقدر بعد ‏{‏أم‏}‏ استفهام إنكاري‏.‏ واعلم أن الآلوسي نقل عن «الكشف على الكشاف» كلاماً في انتظام الآيات من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون شاعر‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أم لهم إله غير الله‏}‏ فيه نُكتٌ وتدقيق فانظره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ‏(‏44‏)‏ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ‏(‏45‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏أم يقولون شاعر‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ وما بعدها من الجمل الحالية لأقوالهم بمناسبة اشتراك معانيها مع ما في هذه الجملة في تصوير بهتانهم ومكابرتهم الدالة على أنهم أهل البهتان فلو أُرُوا كسفاً ساقطاً من السماء وقيل لهم‏:‏ هذا كسف نازل كابروا وقالوا هو سحاب مركوم‏.‏

فيجوز أن يكون ‏{‏كِسْفاً‏}‏ تلويحاً إلى ما حكاه الله عنهم في سورة الإِسراء ‏(‏90 92‏)‏ ‏{‏وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً‏}‏ وظاهر ما حكاه الطبري عن ابن زيد أن هذه الآية نزلت بسبب قولهم ذلك، وإذ قد كان الكلام على سبيل الغرض فلا توقف على ذلك‏.‏

والمعنى‏:‏ إن يروا كسفاً من السماء مما سألوا أن يكون آية على صدقك لا يذعنوا ولا يؤمنوا ولا يتركوا البهتان بل يقولوا‏:‏ هذا سحاب، وهذا المعنى مروي عن قتادة‏.‏ وهو من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 14، 15‏]‏‏.‏

والكِسف بكسر الكاف‏:‏ القطعة، ويقال‏:‏ كسفة‏.‏ وقد تقدم في سورة الإِسراء‏.‏

و ‏{‏من السماء‏}‏ صفة ل ‏{‏كسفاً‏}‏، و‏{‏من‏}‏ تبعيضية، أي قطعة من أجزاء السماء مثل القطع التي تسقط من الشهب‏.‏

والمركوم‏:‏ المجموع بعضه فوق بعض يقال‏:‏ ركمه ركماً، وهو السحاب الممطر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يجعله ركاماً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏‏.‏ /

والمعنى‏:‏ أن يقع ذلك في المستقبل يقولوا سحاب، وهذا لا يتقضي أنه يقع لأن أداة الشرط إنما تقتضي تعليق وقوع جوابها على وقوع فعلها لو وقع‏.‏ ووقع ‏{‏سحاب مركوم‏}‏ خبراً عن مبتدأ محذوف، وتقديره‏:‏ هو سحاب وهذا سحاب‏.‏

والمقصود‏:‏ أنهم يقولون ذلك عناداً مع تحققهم أنه ليس سحاباً‏.‏ ولكون المقصود أن العناد شيمتهم فرع عليه أن أمر الله رسول صلى الله عليه وسلم بأن يتركهم، أي يترك عرض الآيات عليهم، أي أن لا يسأل الله إظهار ما اقترحوه من الآيات لأنهم لا يقترحون ذلك طلباً للحجة ولكنهم يكابرون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏‏.‏ وليس المراد ترك دعوتهم وعرض القرآن عليهم‏.‏

ويجوز أن يكون الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فذرهم‏}‏ مستعملاً في تهديدهم لأنهم يسمعونه حين يقرأُ عليهم القرآن كما يقال للذي لا يرعوي عن غيه‏:‏ دعه فإنه لا يقلع‏.‏

وأفادت الغاية أنه يتركهم إلى الأبد لأنهم بعد أن يصعقوا لا تُعاد محاجتهم بالأدلة والآيات‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يلاقوا‏}‏‏.‏ وقرأه أبو جعفر ‏{‏يَلْقوا‏}‏ بدون ألف بعد اللام‏.‏

و «اليوم الذي فيه يصعقون» هو يوم البعث الذي يصعق عنده من في السماوات ومن في الأرض‏.‏

وإضافة اليوم إلى ضميرهم لأنهم اشتهروا بإنكاره وعرفوا بالذين لا يؤمنون بالآخرة‏.‏ وهذا نظير النسب في قول أهل أصول الدين‏:‏ فلان قدري، يريدون أنه لا يؤمن بالقدر‏.‏ فالمعنى بنسبته إلى القدر أنه يخوض في شأنه، أو لأنه اليوم الذي أوعدوه، فالإِضافة لأدنى ملابسة‏.‏

ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 103‏]‏‏.‏

والصعق‏:‏ الإِغماء من خوف أو هلع قال تعالى‏:‏ ‏{‏وخر موسى صعقاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏، وأصله مشتق من الصاعقة لأن المصاب بها يُغمى عليه أو يموت، يقال‏:‏ صَعِق، بفتح فكسر، وصُعِق بضم وكسر‏.‏

وقرأه الجمهور ‏{‏يصعقون‏}‏ بفتح المثناة التحتية، وقرأه ابن عامر وعاصم بضم المثناة‏.‏

وذلك هو يوم الحشر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏، وملاقاتهم لليوم مستعارة لوقوعه، شُبه اليوم وهو الزمان بشخص غائب على طريقة المكنية وإثباتُ الملاقاة إليه تخييل‏.‏ والملاقاة مستعارة أيضاً للحلول فيه، والإتيان بالموصول للتنبيه على خطئهم في إنكاره‏.‏

و ‏{‏يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً‏}‏ بدل من ‏{‏يومهم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 45‏]‏ وفتحته فتحة إعراب لأنه أضيف إلى مُعرب‏.‏

والإِغناء‏:‏ جعل الغير غنياً، أي غير محتاج إلى ما تقوم به حاجياته، وإذا قيل‏:‏ أغنى عنه‏.‏ كان معناه‏:‏ أنه قام مقامه في دفع حاجة كان حقه أن يقوم بها، ويتوسع فيه بحذف مفعوله لظهوره من المقام‏.‏

والمراد هنا لا يغني عنهم شيئاً عن العذاب المفهوم من إضافة ‏{‏يوم‏}‏ إلى ضميرهم ومن الصلة في قوله‏:‏ ‏{‏الذي فيه يصعقون‏}‏‏.‏

و ‏{‏كيدهم‏}‏ من إضافة المصدر إلى فاعله، أي ما يكيدون به وهو المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏أم يريدون كيداً‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 42‏]‏، أي لا يستطيعون كيداً يومئذٍ كما كانوا في الدنيا‏.‏

فالمعنى‏:‏ لا كيد لهم فيغني عنهم على طريقة قول امرئ القيس‏:‏

على لاَحِببٍ لا يُهتدَى بمناره ***

أي لا منار له فيهتدي به‏.‏

وهذا ينفي عنهم التخلص بوسائل من فعلهم، وعطف عليه ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ لنفي أن يتخلصوا من العذاب بفعل من يخلصهم وينصرهم فانتفى نوعا الوسائل المنجية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

جملة معترضة والواو اعتراضية، أي وإن لهم عذاباً في الدنيا قبل عذاب الآخرة، وهو عذاب الجوع في سني القحط، وعذاب السيف يوم بدر‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏للذين ظلموا‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ وإن لهم عذاباً جرياً على أسلوب قوله‏:‏ ‏{‏فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 45‏]‏ فخولف مقتضى الظاهر لإِفادة علة استحقاقهم العذاب في الدنيا بأنها الإِشراك بالله‏.‏

وكلمة ‏{‏دون‏}‏ أصلها المكان المنفصل عن شيء انفصالاً قريباً، وكثر إطلاقه على الأقل، يقال‏:‏ هو في الشرف دونَ فلان، وعلى السابق لأنه أقرب حلولاً من المسبوق، وعلى معنى ‏(‏غير‏)‏‏.‏ و‏{‏دون‏}‏ في هذه الآية صالحة للثلاثة الأخيرة، إذ المراد عذابٌ في الدنيا وهو أقل من عذاب الآخرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 21‏]‏ وهو أسبق من عذاب الآخرة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏دون العذاب الأكبر‏}‏، وهو مغاير له كما هو بيّن‏.‏

ولكون هذا العذاب مستبعداً عندهم وهم يرون أنفسهم في نعمَة مستمرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليقولن هذا لي‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 50‏]‏ أُكد الخبر ب ‏{‏إنّ‏}‏ فالتأكيد مراعى فيه شكهم حين يسمعون القرآن، كما دل عليه تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏‏.‏

والاستدراك الذي أفادته ‏(‏لكنَّ‏)‏ راجع إلى مفاد التأكيد، أي هو واقع لا محالة ولكن أكثرهم لا يعلمون وقوعه، أي لا يخطر ببالهم وقوعه، وذلك من بطرهم وزهوهم ومفعول ‏{‏لا يعلمون‏}‏ محذوف اختصاراً للعمل به وأسند عدم العلم إلى أكثرهم دون جميعهم لأن فيهم أهْل رأي ونظر يتوقعون حلول الشر إذا كانوا في خير‏.‏

والظلم‏:‏ الشرك قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ وهو الغالب في إطلاقه في القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏48‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏فذرهم حتى يلاقوا يومهم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 45‏]‏ الخ، وما بينهما اعتراض وكان مفتتح السورة خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عذاب ربك لواقع‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 7‏]‏ المسوق مساق التسلية له، وكان في معظم ما في السورة من الأخبار ما يخالطه في نفسه صلى الله عليه وسلم من الكدر والأسف على ضلال قومه وبعدهم عما جاءهم به من الهدى ختمَت السورة بأمره بالصبر تسلية له وبأمره بالتسبيح وحمدِ الله شكراً له على تفضيله بالرسالة‏.‏

والمراد ب ‏{‏حكم ربك‏}‏ ما حكم به وقدره من انتفاء إجابَة بعضهم ومن إبطاء إجابة أكثرهم‏.‏

فاللام في قوله‏:‏ ‏{‏لحكم ربك‏}‏ يجوز أن تكون بمعنى ‏(‏على‏)‏ فيكون لتعدية فعل ‏{‏اصبر‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر على ما يقولون‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ويجوز فيها معنى ‏(‏إلى‏)‏ أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبينهم فيكون في معنى قوله‏:‏ ‏{‏واصبر حتى يحكم اللَّه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 109‏]‏ ويجوز أن تكون للتعليل فيكون ‏{‏لحكم ربك‏}‏ هو ما حكَم به من إرساله إلى الناس، أي اصبر لأنك تقوم بما وجب عليك‏.‏

فلللام في هذا المكان موقع جامع لا يفيد غيرُ اللام مثلَه‏.‏

والتفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فإنك بأعيننا‏}‏ تفريع العلة على المعلول ‏{‏اصبر‏}‏ لأنك بأعيننا، أي بمحل العناية والكلاءة منا، نحن نعلم ما تلاقيه وما يريدونه بك فنحن نجازيك على ما تلقاه ونحرسك من شرهم وننتقم لك منهم، وقد وفى بهذا كله التمثيلُ في قوله‏:‏ ‏{‏فإنك بأعيننا‏}‏، فإن الباء للإِلصاق المجَازي، أي لا نغفل عنك، يقال‏:‏ هو بمرأى مني ومسمع، أي لا يخفى عليّ شأنه‏.‏ وذكر العين تمثيل لشدة الملاحظة وهذا التمثيل كناية عن لازم الملاحظة من النصر والجزاء والحفظ‏.‏

وقد آذن بذلك قوله‏:‏ ‏{‏لحكم ربك‏}‏ دون أن يقول‏:‏ واصبر لحكمنا، أو لحكم الله، فإن المربوبية تؤذن بالعناية بالمربوب‏.‏

وجمعُ الأعين‏:‏ إما مبالغة في التمثيل كأنَّ الملاحظة بأعين عديدة كقوله‏:‏ ‏{‏واصنع الفلك بأعيننا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 37‏]‏ وهو من قبيل ‏{‏والسماء بنيناها بأييد‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏

ولك أن تجعل الجمع باعتبار تعدد متعلَّقات الملاحظة فملاحظةٌ للذب عنه، وملاحظة لتوجيه الثواب ورفع الدرجة، وملاحظة لجزاء أعدائه بما يستحقونه، وملاحظة لنصره عليهم بعموم الإيمان به، وهذا الجمع على نحو قوله تعالى في قصة نوح‏:‏ ‏{‏وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 13، 14‏]‏ لأن عناية الله بأهل السفينة تتعلّق بإجرائها وتجنيب الغرق عنها وسلامة ركابها واختيار الوقت لإِرسائها وسلامة الركاب في هبوطهم، وذلك خلاف قوله في قصة موسى ‏{‏ولتصنع على عيني‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ فإنه تعلق واحد بمشي أخته إلى آل فرعون وقولها‏:‏ ‏{‏هل أدلكم على من يكفله‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 40‏]‏‏.‏

‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اليل فَسَبِّحْهُ وإدبار النجوم‏}‏‏.‏

التسبيح‏:‏ التنزيه، والمراد ما يدل عليه من قول، وأشهر ذلك هو قول‏:‏ «سبحان الله» وما يرادفه من الألفاظ، ولذلك كثر إطلاق التسبيح وما يشتق منه على الصلوات في آيات كثيرة وآثار‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بحمد ربك‏}‏ للمصاحبة جمعاً بين تعظيم الله بالتنزيه عن النقائص وبين الثناء عليه بأوصاف الكمال‏.‏

و ‏{‏حين تقوم‏}‏ وقت الهبوب من النوم، وهو وقت استقبال أعمال اليوم وعنده تتجدد الأسباب التي من أجلها أُمر بالصبر والتسبيح والحمد‏.‏

فالتسبيح مراد به‏:‏ الصلاة، والقيام‏:‏ جعل وقت للصلوات‏:‏ إمّا للنوافل، وإما لصلاة الفريضة وهي الصبح‏.‏

وقيل‏:‏ التسبيح قوله‏:‏ «سبحان الله»، والقيام‏:‏ الاستعداد للصلاة أو الهبوب من النوم‏.‏ وروي ذلك عن عوف بن مالك وابن زيد والضحاك على تقارب بين أقوالهم، أي يقول القائم‏:‏ «سبحان الله وبحمده» أو يقول‏:‏ «سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك ولا إله غيرك»‏.‏

وعن عوف بن مالك وابن مسعود وجماعة‏:‏ أن المراد بالقيام القيام من المجلس لما روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من جلس مجلساً فكثر فيه لَغَظُه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ‏"‏ ولم يذكر أنه قرأ هذه الآية‏.‏

و ‏{‏من الليل‏}‏ أي زمناً هو بعض الليل، فيشمل وقت النهي للنوم وفيه تتوارد على الإنسان ذكريات مهماته، ويشمل وقت التهجد في الليل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فسبحه‏}‏ اكتفاء، أي واحمده‏.‏

وانتصب ‏{‏وإدبار النجوم‏}‏ على الظرفية لأنه على تقدير‏:‏ ووقت إدبار النجوم‏.‏

والإِدبار‏:‏ رجوع الشيء من حيث جاء لأنه ينقلب إلى جهة الدُبر، أي الظهر‏.‏

وإدبار النجوم‏:‏ سقوط طوالعها، فإطلاق الإِدبار هنا مجاز في المفارقة والمزايلة، أي عند احتجاب النجوم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ إذا أقبل الليل من ههنا ‏(‏الإِشارة إلى المشرق‏)‏ وأدْبر النهار من ههنا ‏(‏الإِشارة إلى جهة المغرب‏)‏ فقد أفطر الصائم ‏"‏‏.‏ وسقوط طوالعها التي تطلع‏:‏ أنها تسقط في جهة المغرب عند الفجر إذا أضاء عليها ابتداء ظهور شعاع الشمس، فإدبار النجوم‏:‏ وقت السحر، وهو وقت يستوفي فيه الإِنسان حظه من النوم، ويبقى فيه ميل إلى استصحاب الدَّعَة، فأمر بالتسبيح فيه ليفصل بين النوم المحتاج إليه وبين التناوم الناشئ عن التكاسل، ثم إن وجد في نفسه بعد التسبيح حاجة إلى غفوة من النوم اضطجع قليلاً إلى أن يحين وقت صلاة الصبح، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد صلاة الفجر حتى يأتيه المؤذن بصلاة الصبح‏.‏

والنجوم‏:‏ جمع نجم وهو الكوكب الذي يضيء في الليل غير القمر، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم‏}‏ في سورة النحل ‏(‏12‏)‏‏.‏

والآية تشير إلى أوقات الرغائب من النوافل وهي صلاة الفجر والأشفاع بعد العشاء وقيام آخر الليل‏.‏ وقيل‏:‏ إشارت إلى الصلوات الخمس بوجه الإِجمال وبيّنتهُ السنة‏.‏